مع الحرب والجوع والترحال.. نازحو غزة يفقدون أوزانهم والخياطون تزدهر أعمالهم في تضييق الملابس
الخياط الفلسطيني أبو محمد قنن يعمل على تضييق ملابس زبائنه من النازحين في مواصي خان يونس بقطاع غزة بعدما نحلت أجسادهم بسبب الحرب والجوع والترحال (2 يونيو حزيران 2024)
  • غزة

  • الاثنين، ٣ يونيو ٢٠٢٤ في ٩:٤٧ ص
    آخر تحديث : الاثنين، ٣ يونيو ٢٠٢٤ في ٩:٤٨ ص

مع الحرب والجوع والترحال.. نازحو غزة يفقدون أوزانهم والخياطون تزدهر أعمالهم في تضييق الملابس

(وكالة أنباء العالم العربي) - يضطر محمد ياسين إلى الانتظار لنحو ساعة قبل أن يأتي دوره لدى الخياط الذي تزدحم عريشته الصغيرة بالزبائن، ليطلب تصغير مقاسات بنطالين أحضرهما معه قبل نزوحه أواخر العام الماضي من منزله شمال مدينة خان يونس بقطاع غزة إلى منطقة المواصي غربها.

ياسين الذي قارب على الخمسين من عمره خسر 18 كيلوغراما من وزنه خلال فترة نزوحه ولم يعد بإمكانه ارتداء أي من ملابسه دون تصغير بينما لا تتوفر ملابس جديدة في مناطق النزوح إلا بكميات محدودة للغاية وبأسعار مضاعفة تفوق قدرته.

كان ياسين يأمل باستعادة ولو قليلا من وزنه قبل إحداث تغيير كبير في مقاسات ملابسه، لكن ما كان يتمناه لم يحدث، بل ظل يخسر مزيدا من الوزن مع عدم توفر احتياجاته الغذائية الأساسية كما كان الحال قبل الحرب.

فهو وزوجته وأبناؤه الأربعة يعتمدون على تناول ما يتوفر من المعلبات التي يستلمها من جهات الإغاثة لتشكل وجبتهم الرئيسية والوحيدة في أغلب الأوقات، خصوصا وأن سلعا أساسية مثل الدجاج واللحوم الطازجة والمجمدة غير متوفرة بالسوق منذ نحو شهرين، وعندما كانت موجودة لم يستطع شراءها لعدم امتلاكه ثمنها، فهو بلا عمل من بداية الحرب.

وهو أيضا غير قادر على شراء الخضروات بشكل منتظم ولا يحصل عليها إلا من بعض لجان الإغاثة التي توزع سلة خضار كل شهر أو يزيد، ما أدى إلى تراجع حالته الصحية وعائلته وخسارتهم جميعا لأوزانهم السابقة، وظهور الضعف العام على أجسادهم ونحول وجوههم.

"الحال من بعضه"

لم يعد أمام ياسين سوى اللجوء إلى تصغير ملابسه وأفراد أسرته حتى يمكن استخدامها، خصوصا وأنه كان يغطي البناطيل والقمصان الكبيرة بجاكيت، لكن مع ارتفاع درجات الحرارة لم يعد بالإمكان ارتداء ملابس شتوية.

وبعدما فقد الأمل في تحسن أوضاعه الصحية وإمكانية استعادة جزء من وزنه مع عدم توفر المواد الغذائية، كان تضييق الملابس أمرا لا بد منه.

يقول ياسين أنه تنقَّل بين ثلاثة خياطين على مقربة من مكان نزوحه، ووجد عندهم جميعا زحاما مما يجعلهم يطلبون منه ترك الملابس والعودة لأخذها في اليوم التالي؛ لكنه فضَّل الانتظار ساعة عند الخياط الأخير ليأخذ مقاساته ويبدأ بتضييق ملابسه وهو جالس أمامه خشية تبدلها أو ضياعها وسط أكوام الملابس الأخرى.

يتبادل الرجل أطراف الحديث مع زبائن آخرين ويسألهم متندرا "كم كيلوغرام زادت أوزانكم؟"، فيردون بابتسامة عريضة وهم يدعون بعضهم بعضا لمشاهدة صورهم الشخصية على الهواتف المحمولة قبل الحرب ومقارنتها بما هم عليه الآن، ليتضح من الصور أنهم فقدوا الكثير.

يهز ياسين برأسه يمنة ويسرة تعبيرا عن حسرته ويرُد "الحال من بعضه"، مؤكدا أن من يلتقيهم من معارفه بعد انقطاع تواصل لأشهر يلحظون التغيير الكبير في وجهه وجسده حاله حال الغالبية العظمي من النازحين.

يقول "خسرنا أشياء كثيرة خلال الحرب ومنها لحوم أجسامنا التي نحلت بشكل كبير مما أثر على قدرتنا على الحركة والتنقل والقيام بمهامنا اليومية المعتادة".

ويضيف "نادرا ما نلتقي أشخاصا ما زالوا يحافظون على أوزانهم. الجميع تقريبا خسر وزنه ولكن بتفاوت يَظهر أكثر على من كانت أوزانهم طبيعية قبل الحرب".

وعند الخياط، لا يقتصر حديث الزبائن على خسارة الوزن والرغبة في تضييق الملابس، بل يتعداه إلى الخوف على تأثير ذلك على أوضاعهم الصحية وقدرتهم على القيام بالعمليات الحيوية التي تبقيهم على قيد الحياة.

f02224b9-b58c-44bb-9a4a-296a61b3eb05.jpg

زبائن ينتظرون دورهم عند خياط في مواصي خان يونس لتضييق ملابسهم التي اتسعت عليهم بعدما نحلت أجسادهم بسبب الحرب والجوع والترحال

عدد زبائن قياسي

يعزو المسن سليمان عبد العال، النازح من الشمال إلى رفح قبل نزوحه منذ ثلاثة أسابيع إلى المواصي، الخسارة الكبيرة في أوزان النازحين إلى سوء التغذية وعدم توفر المكونات الغذائية المهمة، أو لفقدانهم الشهية جراء أوضاعهم النفسية وحالة الخوف والرعب والقلق التي تلازمهم في كل الأوقات.

ويصف كيف يضطر النازحون للسير على أقدامهم طوال ساعات النهار محاولين تلبية متطلبات عوائلهم في ظل محدودية سيارات الأجرة لشح الوقود أو لارتفاع أجرة التنقل مما يزيد من نحول أجسادهم، هذا فضلا عن عدم توفر متطلبات الغذاء الأساسية ووسائل الطبخ المساعدة مثل غاز الطهي ومع ارتفاع أسعار الحطب.

اضطر عبد العال لتغيير مقاسات ملابسه للمرة الثانية خلال فترة نزوحه التي تناهز ستة أشهر خسر فيها 11 كيلوغراما، وتوقع أن يفقد مزيدا من وزنه كبقية النازحين إذا ما طال أمد الحرب بما تسببه من عدم توفر معظم المواد الغذائية المهمة.

ويستقبل الخياط أبو محمد قنن يوميا نحو 30 زبونا جلّهم يطلبون تصغير مقاسات ملابسهم وعدد قليل منهم يحتاج إلى رتق أو إصلاح الملابس الممزقة أو المهترئة.

ويقول إن هذا عدد غير مسبوق، إذ لم يكن يمر عليه إلا بضع حالات في الأسبوع لتصغير المقاسات طوال سنوات عمله الذي يمتد لثلاثة عقود.

واللافت للخياط النازح مع زوجته وأبنائه الخمسة منذ خمسة أشهر هو أن جلَّ عمله بات منصبا على تصغير المقاسات، مشيرا إلى أن أكثر مناطق التصغير المطلوبة تكون للخصر والفخذين.

وزبائن قنن فهُم من الجنسين ذكورا وإناثا ومن مختلف الأعمار، وهو يؤكد أن بعضهم يبدو عليه الهزال والنحول بشكل لافت.

وهو يضطر لأخذ مقاسات الزبائن على أن يتركوا الملابس المراد تضبيطها عنده لليوم التالي حتى يأتي دورها في التصغير، فماكينته تعمل بالكهرباء التي يوفرها لوح للطاقة الشمسية يعمل ست أو سبع ساعات فقط في النهار.