غياب الإحصاءات الرسميّة مشكلة ذات أبعاد سياسيّة واقتصاديّة في لبنان
صورة أرشيفية لشارع تجاري من العاصمة اللبنانية بيروت (6 يوليو تموز 2024) - المصدر: AWP
  • بيروت

  • الأربعاء، ١٠ يوليو ٢٠٢٤ في ٥:٠٨ ص
    آخر تحديث : الخميس، ١١ يوليو ٢٠٢٤ في ٨:٠٠ ص

غياب الإحصاءات الرسميّة مشكلة ذات أبعاد سياسيّة واقتصاديّة في لبنان

(وكالة أنباء العالم العربي) - يرى مراقبون للوضع في لبنان أنّه يُعاني من غياب للإحصاءات والبيانات الدقيقة على نحو يخلق عدّة مشكلات ذات أبعاد مختلفة ويشكّل مادّة للاستثمار السياسيّ من قبل الأحزاب.

من وجهة نظر هؤلاء، فإنّ هذا يظهر جليّا في تضارب الأرقام التي يكشف عنها مسؤولون وسياسيون في تصريحاتهم، وهو ما يضعه باحثون ضمن مسار تراجع دور مؤسسات الدولة على حساب تمرير مصالح طائفية وحزبية.

ومن الأمثلة الأبرز على هذا التضارب، غياب رقم دقيق لأعداد النازحين السوريين في لبنان؛ فبينما يقدّر اللواء إلياس البيسري، مدير عام الأمن العام بالوكالة، عدد النازحين بحوالي 2.1 مليون شخص، لا يزيد عدد المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على 880 ألفا، في حين تشير تقديرات حكومية إلى أن العدد يقدّر بنحو 1.8 مليون نازح سوري.

صادق علوية، عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي، يرى بدوره أنّ "الأمر يتعلّق بسوء إدارة الدولة؛ فالدولة لا تخطّط لتحسين الخدمات للمواطنين؛ وإن أرادت في منطقة معينة دراسة مدى حاجاتها، فإنّ دراسة هذه المشاريع لا تتم على أساس عدد السكان، وإنّما على أساس المصلحة الحزبيّة والطائفيّة".

وقال في حديث لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) "علينا أن نعتمد القوانين التي نصّت على ضرورة ميكنة الإدارة العامة. هذه الأرقام هدفها المساهمة في التخطيط؛ وإذا أردنا إنشاء معمل للكهرباء أو تمديدات صحيّة في منطقة ما، فهذا يقتضي أن تكون لدينا أعداد صحيحة؛ فالبداية من الأرقام للوصول إلى دولة وليس استعمالها طائفيّا ومذهبيّا".

ممكن ولكن

وبينما يرى علوية أنّ غياب الأرقام الدقيقة في ملفّ اللاجئين السوريّين "سببه الفلتان الحاصل إبان الحرب السوريّة عام 2011، حين تم إدخال النازحين دون قيود" فإنّه يعتبر أنّ الوصول إلى أرقام وبيانات دقيقة في ملفّات أخرى أمر ممكن.

وقال "بالنسبة لعدد المهاجرين، فإنه في كلّ دول العالم لا توجد أرقام دقيقة، ويتم تقديرها بناء على عدّة معطيات؛ فالأعداد يُمكن إحصاؤها برقم تقريبيّ ولا تقوم الدولة به بشكل رسميّ".

أضاف "من المؤكّد أنّ الرقم المتداول من قبل الأجهزة الأمنيّة أو المنظمات الدوليّة هو قريب إلى الواقع؛ إلا أنّ عدم وجود الأعداد الأكيدة سببه أيضا عدم وجود ميكنة لعمليّات الدولة".

في المقابل، يرى عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أن هناك وضوحا في الأرقام عندما يتعلق الأمر بقوائم الناخبين "مع كل طائفة ومذهب على حدة".

وقال "كما هي واضحة (أعداد الطوائف) بالنسبة للناخبين، يُمكن نقل هذه التجربة إلى كامل البلاد. إلا أنّ هذا الموضوع لا لزوم له؛ لأنّه إذا كان الأمر يتعلّق بهدم الدولة، فمن المؤكّد أنّ هناك أطرافا تسعى إلى التعداد لحساباتها الضيّقة... أمّا في حالة بناء الدولة، فإنّ الأمر يقتضي ألّا نُحصي... وأن يكون العمل على أساس المشاريع وليس الطائفة".

أشار علوية أيضا إلى تضخيم بعض الجهات أعداد المشاركين في مظاهرات سابقة نتيجة للصراع السياسيّ خلال السنوات الماضية، والتي كان كلّ تيّار سياسيّ يعتبر فيها أنّه استطاع حشد مليون لبناني في ساحة الشهداء بوسط العاصمة بيروت، قائلا إن "هذا الأمر لا يدلّ على أنّ هناك ملايين جابت الشوارع في لبنان".

اقتصاد ومعيشة

يؤثّر غياب الإحصاءات الدقيقة أيضا على الملفّات الاقتصاديّة والمعيشيّة، وهو الأمر الذي ينعكس بدوره على قدرة المواطنين على تأمين حياة كريمة والحصول على الأجر والراتب المناسب.

وبينما رفع لبنان الحدّ الأدنى لأجور القطاع الخاص إلى 18 مليون ليرة لبنانيّة (حوالي 200 دولار أميركي) من تسعة ملايين، ترى (المؤسسة الدوليّة للمعلومات) في بيروت أنّ الحد الأدنى يجب ألا يقل عن 52 مليون ليرة، في حين تُشير إدارة الإحصاء المركزي إلى أنّ الحد الأدنى يجب ألا يقل عن 37 مليون ليرة.

علوية، الذي أوضح أنّ قانون الحدّ الأدنى للأجور ينصّ على وجوب إجراء دراسة كل سنتين، قال بدوره إن "عدم تطبيق القانون سببه تحكّم الهيئات الاقتصاديّة بالقرار في هذا الشأن؛ فعدد من الوزراء والنافذين هم أصحاب عمل ولا مصلحة لهم في إجراء دراسات صحيحة حول غلاء المعيشة والحدّ الأدنى لكيّ لا ينعكس ذلك على ضرورة إلزامهم بدفع أجور إضافيّة".

في المقابل، يُشير علوية إلى وجود أرقام واضحة لعدد متملّكي العقارات من غير اللبنانيين "لأنّ مديريّة الشؤون العقاريّة تنشر كلّ عام بيانات بأعداد المالكين للعقاراتّ.

لكنّه يرى على الجانب الآخر أنّ الحديث عن مناطق تدفع رسوم اشتراك الكهرباء أكثر من مناطق أخرى "لا يقترب من الصحّة بأيّ مجال... مسألة المناطق التي تدفع رسوما أو لا تدفعها أمرٌ يستعمل في البازار السياسي".

وقال "هناك منطقة مكتظّة بالسكان وأخرى أقلّ كثافة؛ وهناك مناطق عدد المشتركين فيها كبير وغيرها منخفض. فإذا قدّرنا أنّ الجباية بنسبة 80% في بعض المناطق وتنخفض في قسم آخر، فالسبب المؤكّد هو تقصير شركة كهرباء لبنان في تركيب العدادات؛ وبالتالي لا يُمكن تحميل المواطنين مسألة تقصير الدولة".

تهرّب من المسؤولية

من جانبه، يرى المحامي ماريو فرح أنّ غياب الأرقام والقدرة على الوصول إلى المعلومات هدفه "تهرّب المسؤولين من المحاسبة والملاحقة القانونية".

وقال فرح في حديث لوكالة أنباء العالم العربي إن "وجود الأرقام الدقيقة يساعد في إنجاز واستكمال الدعاوى القانونيّة؛ لكنّ النوّاب والوزراء والموظفين الرسميّين يعملون على إصدار تشريعات وقوانين تحميهم من المساءلة القضائيّة".

أضاف "الأزمة الماليّة عام 2019 كشفت مدى هشاشة الوضع الاقتصادي وعدم امتلاكنا أرقاما دقيقة للخسائر والأرباح ونسبة الفساد في الدولة".

وتابع "الفوضى السابقة في تعدد أرقام سعر الصرف بين المصرف المركزي والسوق السوداء والجمارك انعكست على مشروع الموازنة العامة الذي يحوي شوائب عديدة، منها عدم توحيد سعر الصرف ورفع الرسوم والضرائب بطريقة عشوائية... هدفها تشتيت المواطن وتحقيق مكاسب ماليّة تغطّي العجز على تنفيذ الإصلاحات اللازمة التي أساسها المحاسبة".

وقال إنّ غياب الأرقام "ليس حكرا على المؤسّسات الرسميّة... فأصحاب الشركات الخاصة لا يصرّحون بأعداد العمال الفعلي لديهم ولا جنسياتهم، ولا تذكر دفاترهم الرسميّة قيمة الأجور والرواتب الحقيقيّة، التي تتناقض بين المكتوب على الورق والذي يتقاضاه العامل".

أضاف "بالنسبة لحجم الثروات لدى المواطنين في لبنان، وخاصة لدى الفئات الغنيّة، فهذه أرقام غير واضحة، وتبيّن ذلك خلال الأزمة الماليّة عبر تهريب أموالهم من المصارف إلى الخارج بأرقام كبيرة".

واعتبر فرح أنّ هذه التناقضات "جزء طبيعي من الدولة اللبنانيّة وتنسحب أيضا على الرقم المتداول شعبيّا بأنّ مساحة لبنان تبلغ 10 آلاف و452 كيلومترا مربّعا... وهو رقم غير دقيق، كونه لم يذكر بأي من الوثائق الرسمية وإنما مجرد شعار سياسي؛ فكل ما يملكه لبنان هو تقديرات، مثل المسجّل لدى المركز الوطني للبحوث العلميّة برقم 10.25 ألف كيلومتر مربع".

أضاف "سبب الغياب هو عدم عمل مسح للأراضي اللبنانية، نتيجة لعدم ترسيم الحدود البريّة مع سوريا، والبحرية مع سوريا وقبرص، واستعادة النقاط المحتلة في جنوب لبنان".