دماء وأشلاء.. مشاهد دامية يخلّفها قصف إسرائيليّ على مدرسة إيواء بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة
الطفلة خديجة إلى جوار جثمان شقيقها الذي قُتل في القصف على مدرسة تابعة للأونروا كانت تؤوي نازحين في مخيم النصرات بقطاع غزة. 6 يونيو حزيران 2024
  • النصيرات

  • الجمعة، ٧ يونيو ٢٠٢٤ في ٥:٢٢ ص
    آخر تحديث : الجمعة، ٧ يونيو ٢٠٢٤ في ٥:٢٢ ص

دماء وأشلاء.. مشاهد دامية يخلّفها قصف إسرائيليّ على مدرسة إيواء بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة

(وكالة أنباء العالم العربي) - يقف الطفل الفلسطينيّ ركان أبو العيش وقد عُقد لسانه وارتعدت فرائصه بعدما دبّ الرعب في أوصاله وهو ينظر إلى دماء تلطخ بقايا الأمتعة والأشلاء المتناثرة بين أكوام الركام في مدرسة النصيرات التي تؤي النازحين في المخيم وسط قطاع غزّة جرّاء قصف إسرائيلي.

يُمعن ركان (12 عاما) النظر في الاختراق الذي أحدثته صواريخ أطلقتها الطائرات الإسرائيلية واستهدفت سقف الطابق الأول بالمدرسة، ثم يتحدّث متلعثما بكلمات تعكس على قلّتها حجم الخوف الذي سيطر عليه بسبب اللحظات القاسية التّي عاشها أثناء قصف المدرسة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

بشقّ الأنفس، نجا ركان مع عائلته عندما فرّ مسرعا من مكان القصف إلى ساحة المدرسة التي كانوا قد نزحوا إليها من جباليا شمال القطاع قبل خمسة أشهر؛ وبيديه المرتجفتين، يشير الطفل إلى المكان الذي كان ينام فيه وقد أغرقته دماء الضحايا ولم يبق فيه سوى بعض الملابس الممزقة والفُرُش المحترقة وبقايا الطعام.

يُحاوِل أبو العيش أن يتماسك وقد سيطر الخوف على قسمات وجهه وحركاته وسكناته حتى كاد يُلجم لسانه؛ ويصرّ الصبيّ على استكمال قصّة نجاته من موتٍ محققٍ وإن كان الخوف يسرق منه في بعض الأحيان تفاصيل ذلك المشهد المرعب.

كانت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة قد أعلنت مقتل 28 فلسطينيّا وإصابة العشرات جراء القصف الجوي الإسرائيلي الذي استهدف مركزا لإيواء للنازحين بمدرسة النصيرات الإعدادية التابعة للأونروا.

وكان ركان وأسرته نياما في الصفّ الدراسيّ الذي لجأوا إليه حين سمعوا صوت انفجارٍ تهاوت على أثره الجدران، فقفزوا جميعا من المكان عبر الدرج الجانبي الذي كانت تسقط عليه الحجارة أيضا حتّى وجدوا أنفسهم في ساحة المدرسة للحظات ثُمّ فرّوا إلى خارجها.

قصف شديد

يصف ركان القصف قائلا إنه كان "شديدا جدّا ومرعبا؛ من لحظتها أبكي وكلّ الصغار مثلي... الكلّ فكّر أنّه زلزال، أو أنّ المدرسة هُدمت على رؤوسنا؛ لا أصدّق إنّي أتنفّس إلى الآن".

في تلك اللحظة، لم يستطع الصبي السيطرة على مشاعرة، فانهار منفعلا وهو يتنقّل بين الحطام في مكان القصف ويُكمل روايته؛ استند ركان إلى حائط قريب، قبل أن يصله شقيقُه الأكبر على عجلٍ ليُمسِك بيديه ويحتضنه محاولا أن يخفف عنه هول المشاهد الصادمة التي عاشها.

على مقربة، كانت النازحة سهاد الجديلي (38 عاما) تجلس مع نسوة آخرين تحكي كلّ منهن للأخرى عن مشاهدتها للأشلاء التي تناثرت في المكان وتطاير بعضها من الطابقين الأول والثاني إلى ساحة المدرسة، بينما حوّل لهيب نيران القصف المكان إلى بؤرة ملتهبة في عتمة الليل.

تقول الجديلي، التي كانت تعيش مع عائلتها في الطابق الأرضي بالمدرسة، إنّها فوجِئت كبقيّة النازحين بدويّ انفجارات متتالية قبل الساعة الثانية فجرا بقليل، قبل أن تفرّ من الصفّ الدراسيّ الذي كانت تنام فيه مع عائلتها إلى الساحة لتجد أنّ القصف قد استهدف الطابقين العلويين.

لم تتمالك الأم لأربعة أطفال أعصابها وانهارات كبقيّة النازحين من المشهد؛ حاولت الاحتماء بالصفوف المواجهة للقصف حتى هدأ قليلا، وإذ بالمكان يعجّ بالنار والدخان وسط صرخات متتالية ونداءات لا تتوقّف لإنقاذ من كانوا تحت القصف.

تقول "هرج ومرج وعويل، وأناس يفرون عبر الدرج وآخرون يسيرون وأجسادهم ممزّقة والدماء تسيل منها، والبعض يناشدون عبر شرفة الطابق الثاني بأنّ هناك شهداء ومصابين بحاجة لنقلهم".

تضيف "الكل في صخب ورعب، وبعضُهم يدخل محاولا الإنقاذ، وبعضهم يفرّ ماشيا على الأقدام، وبعضهم زاحفا على الأيدي من الإصابات والرعب، كأننا بيوم القيامة... فررنا من القصف وحرصا على النجاة، فإذا بالموت يلاحقنا أينما نذهب".

لا مكان آمنا

النازح نعيم الددا (54 عاما) تحدّث بغضب عن استهدف مكان تابع للأمم المتّحدة، قائلا إنه شاهد أسقف تخترقها الصواريخ وجدران تنهار على النازحين وأمتعة تحترق.

وتساءل "إذا خلّفت الصواريخ كلّ هذا الدمار بالمكان، فكيف الحال بمن كانوا ينزحون فيه؟ إلى متى سنبقى في دوّامة الموت المستمرّ؟ ألا يُعتبر قتل وإصابة كلّ هذا العدد مجزرة يجب أن تحاسب عليها إسرائيل؟"

يرى الددا أنّ الجيش الإسرائيليّ لم يُبق مكانا آمنا في قطاع غزّة؛ وقال "كلّ المناطق والأماكن يستهدفها (الجيش الإسرائيلي) بالقصف دون أيّ شفقة بالنازحين الذين أجبرهم على مغادرة منازلهم ومناطق سكنهم قسرا إلى مناطق يصفها بالآمنة؛ لكن الحقيقة بخلاف ذلك تماما"، وفق تقديره.

يُمسِك الرجل بقميص غارق في الدماء، قائلا "كلّنا على يقين بأنّ إسرائيل تزيد في قتلها للأبرياء حتى نغادر هذا الوطن؛ هُم يقتلوننا ويدمّرون بيوتنا ومقوّمات حياتنا، وليس أمامهم من هدف سوى ترحلينا وتهجيرنا من فلسطين... السؤال الذّي يشغل بال الجميع هو إلى أين المصير؛ فليقُل لنا الجيش الإسرائيلي أين نذهب حتى يوقف قصفنا؟"

في مستشفى الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة، كانت الطفلة خديجة فرج الله (ثمانية أعوام) ذات الأعوام الثمانية تجلس بجانب جثمان شقيقها الوحيد محمود (12 عاما) الذي قُتل في قصف مركز الإيواء بالنصيرات، بينما تُحاول أمّها التخفيف من بكائها الذي كان يشتدّ كلّما مسحت بيديها على جبينه لكن دون جدوى.

كانت الطفلة خديجة تحتضن جثمان شقيقها وهي تتحدّث بين أكوام الرُكام التّي سقطت عليه جرّاء القصف، بينما كانت هي على بُعد أمتار منه وتعرّضت لإصابات طفيفة؛ قالت له وقلبها يعتصر ألما "آه يا أخويا، ليش قتلوك؟ ليش يا ربي، أنت شو ذنبك؟".

انتزع أقاربها جثمان شقيقها ليضعوه بجوار جثامين أخرى حتى يؤدوا صلاة الجنازة في السّاحة المقابلة لقسم الطوارئ بمستشفى الأقصى؛ لكن خديجة لم تفارق عينا الجثمان حتّى اللحظات الأخيرة وهم يضعونه في سيارة صغيرة لدفنه في إحدى المقابر القريبة.