الحرب الإسرائيلية تغير الأوضاع الاجتماعية للفلسطينيين في قطاع غزة
AWP - نازحون فلسطينيون ينتظرون دورهم للحصول على المياه الصالحة للشرب من محطة مياه في قطاع غزة (15 مايو أيار 2024)
  • غزة

  • الأحد، ٧ يوليو ٢٠٢٤ في ٨:٤٢ ص
    آخر تحديث : الأحد، ٧ يوليو ٢٠٢٤ في ٤:٥٥ م

الحرب الإسرائيلية تغير الأوضاع الاجتماعية للفلسطينيين في قطاع غزة

(وكالة أنباء العالم العربي) - يقف أستاذ في الجيولوجيا بإحدى جامعات غزة في طابور طويل لتعبئة المياه المستخدمة في الأغراض المنزلية، في روتين يومي مستمر منذ ما يزيد على سبعة أشهر يشاركه فيه جميع من حوله من النازحين في قطاع غزة الذين يضطرون للانتظار لما يزيد على ثلاث ساعات يوميا للحصول على جالونين فقط من المياه غير صالحة للشرب.

ويقول أستاذ الجيولوجيا، الذي يبلغ عمره 56 عاما ورفض الكشف عن اسمه، لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) "لم يصل خيالي في أسوأ مراحل الشك والقلق أن تقذف بي الحياة يوما لمعايشة هذا الذل بعد كد السنين والتعب في سبيل حياة مستقرة تليق بالمستوى الاجتماعي لأسرتي.

"لم أتصور مطلقا اضطراري في يوم من الأيام للوقوف على هكذا طابور بعد أن أسست في بيتي أفضل شبكات تنقية وتوصيل مياه الشرب ومياه الاستخدام العادي".

وأستاذ الجيولوجيا ليس الوحيد الذي تأثر بتغير التركيبة الاجتماعية في قطاع غزة، فقد تسببت الحرب الإسرائيلية التي تعصف بالقطاع منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول في تحولات كبيرة في أسلوب معيشة سكانه، فمن السكن في البيوت إلى العيش في خيام يفصلها خيط رفيع، ومن مجتمع يزخر بالأكاديميين وميسوري الحال، إلى آخر تدور حياة جميع فئاته حول تلبية الاحتياجات الأساسية بطرق بدائية.

وتوضح جولة في مخيمات النازحين تناقضات جلية، حيث يمكن رؤية سيارات فارهة حديثة متوقفة أمام خيام يبدو أن سكانها كانوا ينعمون بحياة أفضل قبل الحرب، قبل أن يضطروا إلى افتراش رمال البحر والبرث في كنف خيمة لا تقي بردا ولا تلطف حرا ولا تستر صوتا أو حركة.

تحول روتين أستاذ الجيولوجيا الصباحي من الذهاب إلى الجامعة، كما اعتاد على مدار 16 عاما، إلى حمل الجالونات الفارغة والوقوف في طابور تعبئة المياه، حيث يبدأ الناس تجمعهم قبل ثلاث ساعات من موعد بدء العمل الذي لا يستمر لأكثر من ساعتين فقط في أفضل الأحوال، على حد قوله.

وأضاف أستاذ الجيولوجيا "ليس لدي سوى ولد وحيد يعيش معي وابنتين في مكان آخر، وجميعهم متزوجون وبالكاد يستطيعون تدبر شؤونهم الخاصة، أما ابني الذي أتقاسم معه الخيمة فقد كان يعمل مهندسا مدنيا قبل الحرب، ويخرج الآن مبكرا لطلب الرزق... ولم يبق سواي لأداء هذه المهمة المذلة".

ما بثينة أبو عودة، الناشطة الحقوقية في مجال المرأة والطفل، فتسرد حكايتها مع أول خطوات "عبور البرزخ" بين حياة اعتادت عيشها وأخرى لا تعرف عنها سوى نسج الخيال المرعب، وذلك حين اضطرت لأول مرة إلى ركوب عربة يجرها حيوان إبان نزوحها من مدينة غزة إلى المحافظة الوسطى عبر حاجز نتساريم في نوفمبر تشرين الثاني الماضي.

وقالت "نزلت من السيارة عند مفترق دولة على شارع صلاح الدين لأرى سيلا بشريا يزحف ببطء وانكسار نحو الجنوب، كان الناس يشبهون بعضهم إلى حد التطابق، فجميعهم يحمل مجرد حقيبة ظهر صغيرة، ويرفع في يده اليمنى راية بيضاء وفي اليسرى بطاقة الهوية، بينما تعجل ألسنتهم بالذكر والدعاء".

وأضافت "هنا أدركت أن كل ما سبق كان فصلا من الحياة وانتهى، وما هو قادم شيء أبعد من الخيال، ولكي أستطيع استساغة ما يكفي لإبقائي وأسرتي على قيد الحياة، لا بد من التخلي عن الكثير من العادات والملامح التي تشكل حياتنا الأصلية، والانتقال مكرهين لارتداء ثوب آخر لا يشبه تفاصيلنا".

أشارت بثينة إلى سائق العربة وفاوضته بخشونة غير معهودة على أجرة توصيلها وأسرتها إلى دوار الكويت.

صُدمت أسرة بثينة من أسلوبها وتردد الجميع في الانصياع إلى طلبها بركوب العربة، إلا أنها صعدت مباشرة بجانب السائق على مقربة من دابة الجر، على حد قولها، ليدرك الجميع أن لا مناص من الركوب والانطلاق إلى أقرب مسافة ممكنة من الحاجز.

وتابعت قائلة "منذ ذلك الحين وأنا لا أفضل سوى ركوب عربات الجر، فهي تمكنني من التسوق خلال الزحام دون الاضطرار للنزول والتجول، أتحدث مع الباعة وأفاوضهم على السعر وأشتري احتياجاتي وأنا جالسة على العربة"، قبل أن تختم حديثها بضحكة تحمل الكثير من السخرية والسخط.

التعايش مع الأمر الواقع

يقف طبيب فلسطيني كان يشغل منصب رئيس قسم في أحد مستشفيات شمال قطاع غزة، أمام فرن حديدي في أحد مخيمات النزوح بمنطقة مواصي خان يونس لإعداد مخبوزات ومعجنات بالقرفة، قبل أن ينطلق طفلاه لبيعها على جانب المدخل الرئيسي للمخيم "كطريقة للتعايش مع الأمر الواقع"، على حد قوله.

وقال الطبيب الذي رفض الكشف عن اسمه في التقرير "اضطررت إلى إعداد فطائر حلوى السينابون وبيعها كمصدر لإعالة أسرتي بعد أن تخلت الحكومة عن واجبها تجاهنا في هذه الظروف العصيبة.

"رغم إدراكي مدى أهمية وجودي كطبيب داخل المستشفى والعمل على مداواة الجرحى وإنقاذ حياتهم، فإنني دُفعت مكرها إلى على البقاء داخل الخيمة والبحث عن مصدر يوفر لأولادي قوت يومهم".

وأضاف "منذ الدقائق الأولى لاندلاع الحرب توجهت إلى المستشفى قبل وصول أول دفعة من المصابين، وواصلت رفقة طاقمي وزملائي تقديم الخدمة الطبية ليل نهار دون توقف رغم شدة التعب والإرهاق، لكن ما وجدته من الحكومة تجاهنا كان محبطا جدا.

"كل ما قُدم لنا خلال فترة الحرب على مدار تسعة أشهر من الاستنزاف البدني والمالي مجرد ثلاث أو أربع سُلف من الراتب لا تكفي مجتمعة لتلبية حاجة الأسرة من الطعام والشراب لشهر واحد فقط".

وعندما نزح الطبيب إلى منطقة مواصي خان يونس ليلحق ببقية أسرته بعد نحو شهرين من نزوحهم إلى هناك، ذهب لممارسة عمله كطبيب في المستشفى الأوروبي، إلا أن تكلفة المواصلات العالية استنزفت ما تبقى بحوزته من نقود، ليضطر إلى الانقطاع عن عمله.

وتابع قائلا "واجهت حرجا شديدا في البداية مع اشتداد وطأة العوز وعدم قدرتي على تلبية متطلبات أسرتي اليومية".

كان الحاجز الأكبر أمامه هو شعوره بالحرج في التحول من طبيب مرموق إلى بيع الحلوى على جانب الطريق، وكذلك انهيار حلمه في منح طفليه حياة مستقرة في بيئة تتوفر فيها مقومات النجاح الأكاديمي والتفوق العلمي، على حد قوله.

وعلى الطرف الآخر من المدينة يقف إبراهيم الطويل، الذي كان يعمل محاميا، على حافة إحدى الشاحنات المتوقفة بالقرب من دوار بني سهيلا في شرق خان يونس، يصدح صوته بأسماء المناطق التي يمر عليها خط سيره، ليجتمع الراغبون في وسيلة مواصلات ويصعدون إلى الشاحنة التي تنطلق بعد ذلك إلى وجهتهم.

وقال الطويل "كنت محاميا بدأ في حصد ثمار الكد والتعب في بناء اسم وسمعة جيدة في هذا الوسط. افتتحت مكتبي الخاص في أحد أشهر الأبراج في غزة، وجهزته بأفخم الأثاث كي يكون على قدر مرموق وسط مكاتب المحاماة، إلا أن الحرب قد جعلت كل شيء مجرد كتلة من الغبار طارت معها كل أحلامي وعناء السنين".

لم ينته الطويل من سداد أقساط الأثاث وتكاليف تجهيز مكتبه الخاص حتى نسفت الحرب كل شيء، بحسب وصفه، وتركته مستسلما بين مطرقة ضياع حصاد سنوات العمر وسندان ضرورة توفير الحد الأدنى من احتياجات أسرته، لتقوده الحياة في النهاية إلى العمل على شاحنة لنقل الركاب.