• بيروت

  • السبت، ٤ مايو ٢٠٢٤ في ٦:٠٨:٣٣ ص
    آخر تحديث : السبت، ٤ مايو ٢٠٢٤ في ٨:٣٢ ص

الفقر والصراعات يوقعان نساء وأطفالا ضحايا للاتجار في البشر في لبنان

(وكالة أنباء العالم العربي) - في مفترق الطريق الواصل بين شارع بشارة الخوري ووسط المدينة في العاصمة اللبنانية بيروت، تنتشر مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين خمس وعشر سنوات يعملون في التسول من المارة وقائدي السيارات.

يقترب طفل يطلب مساعدته بالمال، ويعرف نفسه لمراسل وكالة أنباء العالم العربي (AWP) باسم خالد ويقول إن عمره سبع سنوات.

تنضم طفلة أخرى إلى خالد معتقدة أن الحديث بهدف الحصول على المال، وتقول "أنا رهام شقيقة خالد وعمري عشر سنوات".

تتحدث رهام إلى وكالة أنباء العالم العربي قائلة إنها تصل إلى هذا المكان في الساعة الثامنة مساء كل يوم، وحين تجمع 400 ألف ليرة لبنانية، يمكنها حينئذ العودة إلى المنزل.

وتوضح رهام أن المبلغ لا تعطيه إلى والدها، بل إلى شخص لم تحدد هويته يتولى توزيع نصيب كل مجموعة من المال في نهاية الأسبوع.

يقاطع الحديث صراخ سيدة تجلس على الرصيف المقابل بعيدا عن الضوء، تطلب من خالد ورهام العودة إليها.

وبعد ساعة واحدة من منتصف الليل، يتجمع الأطفال حول السيدة، لتأتي سيارة أجرة تقلهم بعيدا عن المنطقة.

تسول الأطفال ليس الصورة الوحيدة للاتجار في البشر في بيروت، ففي منطقة الدورة بشمال العاصمة اللبنانية، تتوزع عدد من الفتيات بعد منتصف الليل على الرصيف الواصل بين منطقة تجمع الحافلات وبرج حمود.

تقترب إحداهن من السيارة وتقول بلهجة عربية ثقيلة "هل تريد قضاء ليلة؟ الليلة مقابل 50 دولارا والسكن عليك".

لا تتحدث الفتاة خارج إطار العمل، وترد بحذر على كل استفسار.

وقالت "إذا لم يعجبك العرض يمكنك الانصراف والبحث عن عرض أفضل".

تذكر واحدة من فتاتين من أصل تسع بقيتا في المكان بعد مرور ساعتين إن اسمها كال من إثيوبيا، وتقول إنها تعمل أربعة أيام أسبوعيا وتستطيع تأمين مبلغ يصل إلى 600 دولار كل أسبوع.

وأضافت "المبلغ جزء منه لصاحب العمل وجزء آخر أرسله لعائلتي لمساعدتهم"، مشيرة إلى أن صاحب العمل مهمته تأمين الحماية لها ولمثلها من الفتيات.

وقال النائب ميشال موسى، عضو كتلة (التنمية والتحرير) ورئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان اللبناني، لوكالة أنباء العالم العربي إن الظروف المعيشية الصعبة في لبنان بسبب الأزمة المالية الطاحنة التي تعصف بالبلاد منذ 2019 تشكل أرضية خصبة للاتجار في البشر.

وأضاف موسى "هناك عقوبة للاتجار في البشر بكافة أشكاله، ونحن لا ينقصنا قوانين، إنما المطلوب تطبيق القوانين بحذافيرها من قبل الجهات المختصة والوزارات المعنية".

وتابع قائلا "راجعنا القوانين والاتفاقات الدولية التي وقعها لبنان في هذا المجال، واتفقنا على تعديلات في قانون معاقبة الاتجار بالبشر وتعزيز التوعية ومراكز الإيواء والرعاية".

وبحسب المحامي نائل الخوري، يعاقب القانون اللبناني مرتكبي جريمة الاتجار في البشر بالحبس لمدة لا تقل عن خمس سنوات وتصل إلى 15 عاما.

ويعرّف الخوري الاتجار في البشر بقوله "هو جذب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له، وذلك من خلال التهديد بالقوة أو استعمالها أو الاختطاف والخداع واستغلال السلطة وحالة الضعف لدى الشخص المستهدف".

وأضاف "يهدف الإتجار بالبشر إلى استغلال الشخص أو تسهيل استغلاله من قبل غيره، والقانون لا يعتد بموافقة المجني في حال استعمال أي من الوسائل السابقة، فحتى إن كان موافقا عليها، فذلك لا يزيل عنها صفة الجرم".

وأثار الكشف عن شبكة للاعتداء على الأطفال والقاصرين جدلا واسع النطاق في لبنان خلال الأسبوع الماضي، بعدما ألقت السلطات الأمنية القبض على سبعة أشخاص، بينهم حلاق ذائع الصيت، قالت إنهم ضمن عصابة مكونة من 30 فردا متهمة بارتكاب جرائم تحرش واغتصاب وابتزاز منذ ست سنوات.

* استغلال اللاجئات

لم تكن سهى (30 عاما) تدرك أن بعد نزوحها من ريف إدلب في شمال سوريا إلى لبنان فرارا من الحرب قبل عشر سنوات ستكون أمام مشكلة أخرى.

وتروي سهى لوكالة أنباء العالم العربي ما تعرضت له، مثل غيرها من السوريات، بعد وصولها إلى لبنان، وتقول "وصلت وعمري 20 عاما، لم أكمل دراستي الجامعية بسبب الحرب، وعائلتي فقدت كل رزقها. خرجنا من منزلنا ومعنا ثيابنا وبعض المجوهرات للاستقرار في عكار بشمال لبنان".

وأضافت "في البداية اعتقدت أن الصعوبة الوحيدة التي سأعاني منها هي العيش داخل خيمة ثم يمكننا البحث عن عمل لاستئجار منزل صغير، لكن الأمور لم تكن كما تمنيت".

أصاب الفزع سهى من قصة سيدة سورية أخرى تزوجت أكثر من مرة بهدف تأمين المال لها ولأسرتها. وقالت سهى "قصة مرعبة أن أسلم جسدي وروحي من أجل المال فقط".

لكن عرضا جاء إلى والد سهى لتتزوج لبنانيا، وعلى الرغم من عدم ممانعة الأب فإن شكوكا ساورته بعدما كشف الوسيط في الزواج أن الزوج المحتمل سيدفع عشرة آلاف دولار لمقدم ومؤخر الزيجة.

وقالت سهى "رفضت العرض، ووالدي انتابه الشك حول السبب الذي يدفع شخصا لإنفاق مبلغ كبير وهو متأكد أن الطلاق سيكون حتميا، فكان قرارنا بعدم القبول".

عاد الوسيط بعد خمسة أشهر ومعه عرض زواج آخر مقابل مقدم ومؤخر يبلغ 15 ألف دولار. بحسب سهى. وعلى الرغم من رفض والدها، تقول سهى إنها وافقت حتى تخرج أسرتها من وضعها "الذي لا يحتمله إنسان".

تزوجت سهى في فبراير شباط 2020 قبل شهر واحد من جائحة فيروس كورونا التي اجتاحت العالم.

عاشت سهى حياة هادئة في طرابلس بشمال لبنان في أثناء فترة الإغلاق بسبب الجائحة، لكن كل شيء تبدل مع العودة تدريجيا للأوضاع الطبيعية مع انحسار الوباء في أواخر 2021.

وتقول سهى "تبدلت حياتي واكتشفت حقيقة زوجي"، مشيرة إلى أن زوجها كان يدير منزلهما للعب القمار.

وأضافت "ثلاثة أيام بالأسبوع يفتح زوجي بيتنا للألعاب (القمار)، وأجبرني على تقديم الكحول على الطاولات، وبدأ يطلب مني تغيير ملابسي وارتداء ما يناسب السهرات، رفضت طلبه وكانت النتيجة تعرضي للضرب".

وتابعت قائلة "استمر الأمر حتى مايو 2022 حين أعطاني 200 دولار وقال إنها مقابل عملي هذه الليلة، ولكن هناك طلبا إضافيا: قضاء ليلة مع زبون سيدفع 600 دولار. فكرت حينها لأول مرة في الانتحار".

حاولت سهى الهرب لكنها لم تفلح، وقالت إن زوجها قدمها في المساء لأحد زبائنه لتتعرض للاغتصاب.

ومضت تقول "بقيت بعدها طريحة الفراش أسبوعا كاملا، وعرفت أن زوجي يتخذها مهنة له. اشتكى الزبائن من عدم تجاوبي معهم، وهددوا بعدم الاستمرار في دفع المال. حاول (زوجي) تهديدي وتعرضت للضرب، وفي سبتمبر 2022 حصل الطلاق".

* تسليط الضوء

ترى زينة مهنا، عضو الهيئة الإدارية في مؤسسة عامل الدولية، وهي منظمة غير حكومية، أن ملف الاتجار بالبشر يحتاج إلى تسليط الضوء عليه بشكل أكبر.

وقالت لوكالة أنباء العالم العربي "تحديد الحالات يحتاج إلى عمل دقيق. تصلنا قصص وأوضاع مختلفة، منها ما يكون ضمن العائلة الواحدة كأن يشغل الزوج زوجته بالدعارة أو دفع الأطفال إلى التسول".

وأضافت "في القضاء هناك خلط بين ضحية الاتجار والدعارة، فقد تكون فتاة ضحية اتجار فتسجن بتهمة الدعارة، وبدلا من حمايتها نذهب لمحاسبتها".

وهناك صور عديدة للاتجار في البشر، بحسب زينة، ومنها تهريب البشر عن طريق البحر إلى طرابلس في شمال لبنان.

وتقول عضو الهيئة الإدارية لمؤسسة عامل متحدثة عن المهاجرين "هناك نوعان، الأول تدرك فيه العاملة أنها ترتكب خطأ، ولكنها مضطرة لفعله بدافع الفقر، كعاملة موجودة في دولة أخرى تدفع لشخص مقابل إرسالها إلى لبنان وهي على دراية بأنه سيستغلها".

وتابعت قائلة "النوع الثاني ممن يجبرون على العمل في شبكات الدعارة، وهناك آخرون يجبرون على الاتجار بالمخدرات".

تؤكد زينة أنه يجب حماية هذه الفئة من خلال توفير عقد عمل موحد من بلد المنشأ إلى المهجر "فالعديد من العاملات الأجنبيات يوقعن عقودا على العمل في التعليم، ثم يجدن أنفسهن يخدمن في المنازل".

وأوضح فيليب كنعان، الباحث في شؤون اللاجئين وقضايا الهجرة، أن النازحين والعمال المهاجرين من أكثر الفئات المعرضة لأن تكون ضحية في عمليات الاتجار بالبشر.

وقال "تتعرض نساء لضغوط من عائلاتهن، وتحديدا من الزوج أو الأب، للدخول قسرا في أعمال لا يرغبن فيها. الدعارة من الممارسات التي تدفع إليها النساء".

وأضاف "يتم استغلال بعض اللاجئات السوريات بطرق مختلفة، منها الابتزاز الذي يتعرضن له من قبل أشخاص مسؤولين عنهن في العمل، مقابل الحصول على مبالغ مالية".

وتابع قائلا "بعض العائلات للهروب من وصمهم بالدعارة يزوجون بناتهم إلى لبنانيين بطريقة شرعية، على أن يقع الطلاق بعد فترة ثم يعاد تزويجها لشخص آخر بالطريقة ذاتها".

أما بالنسبة للأطفال، فيقول كنعان "تم تسجيل حالات لعائلات مستعدة لشراء الأطفال من عائلات أخرى، وهو لا يمكن وضعه ضمن إطار التبني الذي يكون بإشراف قانوني".

وأردف "تزداد هذه الحالات بين اللاجئين الذين لا يسجلون أولادهم بطريقة قانونية في سوريا فيختارون بيعهم، كما تعاني العاملات في الدعارة من هذه الحالة، فقد تضطر إلى بيع مولودها بسبب رفض الرجل الذي أقامت معه العلاقة غير الشرعية الاعتراف به".

ويشير كنعان إلى أن تجارة المخدرات "تعد جزءا من عملية الاتجار بالبشر من خلال استغلال الأطفال ليكونوا وسطاء في توزيع المواد المخدرة".

وكثيرون من ضحايا الاتجار في البشر لا يلجؤون إلى القضاء أو المؤسسات المعنية بحمايتهم، بحسب كنعان.

ويقول "ضحية الدعارة تفضل التكتم على حالتها خوفا من نظرة المجتمع إليها، ومنهن من تفضل الصمت تحت تهديد من تعمل لديه".

وتؤكد زينة مهنا، عضو مؤسسة عامل، أهمية متابعة ضحايا الاتجار في البشر وعلاجهم.

وقالت "ضحايا الاتجار يتلقون دعما شاملا اجتماعيا ونفسيا وقانونيا، مع الاحتفاظ بسرية كاملة لملفهم، وهناك حالات لا تستمر في العلاج بسبب ضغط مشغلهم، وفي مرات يأتي التاجر نفسه كي يعرف لماذا نحمي ضحاياه".

وأضاف "أهم دعم يمكن أن تتلقاه الضحية هو تأمين سبل العيش لها، فلا يمكن الاكتفاء بالدعم بل الإسهام في تأمين مورد رزق لهم. عملنا على تفعيل دور الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر، ونعمل مع الجهات المعنية من القضاء والأمن على تطوير هذا الملف".