صناعة الخوص في بابل.. حرفة شعبية عراقية تستهوي النساء وترزح تحت وطأة الاستيراد
امرأة من محافظة بابل وسط العراق تصنع منتجا من الخوص (14 يوليو تموز 2024)
  • بغداد

  • السبت، ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ في ٣:٣٠ ص
    آخر تحديث : السبت، ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ في ٣:٣٠ ص

صناعة الخوص في بابل.. حرفة شعبية عراقية تستهوي النساء وترزح تحت وطأة الاستيراد

(وكالة أنباء العالم العربي) - على مسافة نحو 100 كيلومتر جنوبي العاصمة العراقية بغداد، تجمع أم جعفر سعف النخيل في منطقة السياحي بجنوب بابل، وتنتزع أوراقه التي يسميها العراقيون "الخوص" وتجففها، ثم تبدأ مرحلة الطلاء لبعض هذه الأوراق بألوان مختلفة، وأخيرا تنقعها داخل الماء لتصبح جاهزة لصناعة منتجات الخوص.

هكذا يتم تحضير المادة الأولية الوحيدة لمهنة "الخواصة"، أو صناعة الخوص، وهي واحدة من أقدم الحرف الشعبية التي مازالت النساء في قرية جماعات بمنطقة السياحي تمتهنها وتحافظ عليها من الاندثار، على الرغم من مشقتها وضعف عائدها المالي.

تقول أم جعفر في حديث لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) "قرية جماعات التي أسكن فيها تقع ضمن منطقة السياحي بجنوب محافظة بابل، وتشتهر بهذه المهنة منذ زمن بعيد، فنحن منذ الصغر نمتهنها، وأنا تعلمتها من عمتي، لذا تلاحظ أن أي شخص يسكن المنطقة يعرف المهنة كونها متوارثة".

تشير المرأة البالغة من العمر 45 عاما إلى أن "الفارق في المنتجات يعتمد على مهارة العامل وقدرته على إكمال الشيء المصنوع من الخوص. نحن ننفذ كل الطلبيات لمحال هذه المقتنيات، ونصنع أي شيء يخطر على بال الزبون من الأواني والطبك (طبق يوضع فيه الخبز) والسلات".

امرأة من محافظة بابل وسط العراق تصنع منتجا من الخوص (14 يوليو تموز 2024)

هذه المهنة تعد مصدر الدخل الوحيد لكثير من النساء في هذه القرية، حيث توارثنها عن أجدادهن وجداتهن وأورثنها لبناتهن وأخواتهن، بل وحتى من تملك منهن مصدر دخل آخر تظل تمارس هذه الحرفة من باب الهواية والشغف.

تخرج أم جعفر فجر كل يوم بصحبة زوجها للعمل في الورشة، وتعود بعد أذان الظهر، وتقول "النساء أكثر من يمتهن هذا العمل على عكس الرجال، كونها حرفة نسوية، وحتى الأطفال يعملون بها على سبيل التعلم من أمهاتهم ليكبروا مع هذه الحرفة".

كما لفتت إلى أن "نساء منطقة السياحي قمن أيضا بإدخال نساء المناطق الأخرى في دورات عملية لصناعة أعمال الخوص".

وأمام محل قديم في سوق الحلة الكبير، مركز محافظة بابل، يعرض عقيل الجباوي (50 عاما) العديد من المنتجات المصنوعة من خوص النخيل، ومنها الأواني الكبيرة والصغيرة والمراوح والمكانس والصناديق.

ويقول الجباوي لوكالة أنباء العالم العربي "في سوق الحلة الكبير، يكثر الطلب على صينية الخوص في الاحتفال بيوم زكريا (وهو عيد شعبي ينفرد العراقيون بالاحتفال به على اختلاف أديانهم وطوائفهم وينسب لميلاد النبي يحيى الذي بُشر به النبي زكريا)، وأيضا في أعياد نوروز (عيد الشجرة أو بداية الربيع في 21 مارس آذار من كل عام) لوضع الحلوى بها للأطفال، وهي تعد جزءا من العادات والتقاليد الموروثة".

وأضاف "أما المهفة (المروحة اليدوية) والمكنسة لم يعد الطلب عليهما رائجا مثل السابق، لتطور الحياة ودخول الأجهزة الكهربائية كبديل عصري".

وأوضح الجباوي أن "مقتني هذه السلع أصبحوا معدودين، وهم فقط ممن يهتمون بالتراث كهواية، لكنها تبقى منتجات قيمتها السعرية منخفضة وسلعا جميلة تدلل على حياة أهلنا الريفية السابقة، وتحافظ على تراثنا الأصيل".

امرأتان من محافظة بابل وسط العراق تصنعان منتجات من الخوص (14 يوليو تموز 2024)

تحت وطأة الاستيراد

أدى فتح الحدود العراقية أمام الاستيراد من دون ضوابط إلى اندثار العديد من المهن والحرف اليدوية والصناعية وتسبب بغلق آلاف المصانع والمعامل العراقية وخلق أزمة كبيرة في فرص العمل.

يؤكد حسام الشلاه، وهو كاتب من أهالي بابل، أن "صناعة الخوص من أقدم المهن التي عرفها جنوب العراق، وخاصة صناعة المراوح اليدوية مع بدء فصل الصيف. أما محافظة بابل فتشتهر بصناعات وحرف يدوية عديدة لا سيما صناعة الخوص والتفنن بها، فالمحافظة معروفة بزراعة النخيل".

ويضيف الشلاه أن "انفتاح السوق العراقية على مختلف المنتجات أدى إلى عزوف الناس عن شراء منتجات المهن اليدوية، فبعض هذه المهن اندثرت والبعض الآخر ما زال أصحابها يصارعون من أجل استمرارها، ونحن في بابل نفتخر بوجود نساء عاملات في هذه المهنة التي يواجهن اندثارها بمزيد من التصاميم والألوان".

صناعة الخوص من أقدم المهن في جنوب العراق، وأكثرها انتشارا حتى نهاية القرن التاسع عشر، قبل أن تنحسر جراء التوجه إلى المصنوعات المنزلية المستوردة.

أبو علي (40 عاما) من بين رجال قليلين يمتهنون صناعة الخوص، ويشير هو الآخر إلى أن "هذه المهنة لا تجتذب الكثير من الرجال، فالنساء والأطفال هم الفئة الأكثر عملا بها كونها تتطلب الجلوس في المنزل أو المعمل، بينما يعمل الرجال في الزراعة أو تربية الحيوانات".

ويقول لوكالة أنباء العالم العربي "طريقة تشكيل وعمل المستلزمات تبدأ من اختيار السعف المناسب من النخل، ثم صفه وفرزه لعمل كل منتج، فمثلا سعفة المهفة تختلف عن سعفة الحصيرة (السجادة) أو الطبك، لكن في البداية نقوم بخرط السعف (انتزاع أوراقه) ومن ثم وضعه معرضا للهواء والشمس لمدة يومين أو أكثر".

واستطرد قائلا "من ثم يوضع في الماء، وبعدها صفه وفرزه وتشكيله لعمل المنتجات مع طلائه بالألوان".

منتجات من الخوص مصنوعة يدويا في محافظة بابل وسط العراق (14 يوليو تموز 2024)

وأشار إلى أنه "في السابق كنا نصنع من الخوص الأسرّة والكراسي، لكن انفتاح العراق على الاستيراد ودخول السلع بأسعار مناسبة جعل الناس لا يفضلونه، لذا اقتصر عملنا على المهفات والصواني والسلات والأشياء البسيطة الملونة".

ويعتمد العراق على الاستيراد بشكل كامل لسد حاجة السوق المحلية في مختلف السلع والمنتجات، وتعد البضائع التركية والإيرانية والصينية أكثر المنتجات رواجا في السوق المحلية.

من جانبه، يوصي الخبير الاقتصادي مصطفى حنتوش بإحياء الصناعات اليدوية في البلاد، فيقول "العراق يمتلك إرثا من الصناعات اليدوية، ولو أن وزارة الثقافة والوزارات المعنية قادرة على إحياء تلك الصناعات، ستكون خطوة لجذب المهتمين والسائحين".

ونوه حنتوش في حديثه مع وكالة أنباء العالم العربي بأن محافظة بابل تضم العديد من المحال الصغيرة التي تعرض مثل هذه المقتنيات، "لكن للأسف تفتقر هذه المحال والأكشاك إلى التنظيم".

وأكد على ضرورة أن "تنظم هذه الصناعات في أسواق خاصة بها لاسيما في المناطق التي تحتوي على سياحة دينية مثل النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، لأن الطلب سيزداد عليها وخاصة أن السائحين في معظم دول العالم يحرصون على اقتناء منتجات من الصناعات المحلية بالبلدان التي زاروها لأنها تعكس ثقافاتها".

وفي ختام حديثه، شدد الخبير الاقتصادي على أنه "من الضروري الاهتمام بالصناعات اليدوية التي تعكس ثقافة الشعب العراقي ومهنه الموروثة وتراثه".

تعتبر محافظة بابل مركز الحضارة والامبراطورية البابلية التي سادت قبل أكثر من 3500 عام، وهي موطن الحدائق المعلقة التي تمثل إحدى عجائب الدنيا السبع، ومن أبرز ملوكها حمورابي صاحب أول شريعة في التاريخ.

منتجات من الخوص مصنوعة يدويا في محافظة بابل وسط العراق (14 يوليو تموز 2024)