نمط الحياة الأميركية ما زال موجودا في القنيطرة بالمغرب بعد 80 عاما
(وكالة أنباء العالم العربي) - في صباح يوم مشمس تخنق حرارته الأنفاس، تظهر أعشاش طائر اللقلق في مدينة القنيطرة المغربية، وتتخلل بعض بنايات القرميد المتهالكة شوارعها لتحكي عن قصة مجتمع أميركي مصغر كان يسكن في المدينة خلال الحرب العالمية الثانية.
المدينة المطلة على ساحل المحيط الأطلسي، والتي تبعد 40 كيلومترا شمالي العاصمة الرباط، تشتهر بتصدير المنتجات الزراعية، وتعتبر عاصمة اقتصادية لمنطقة الغرب التاريخية في شمال غرب المغرب.
وكانت القنيطرة مقرا للجنود الأميركيين في بداية أربعينيات القرن الماضي، وهي المدينة المغربية الوحيدة التي عاش بها الأميركيون، كان أغلبهم من الجنود في القاعدة العسكرية الأميركية بالمدينة، حيث تعايشوا واندمجوا مع المغاربة، وخلفوا ورائهم نمط حياة ولغة وعادات وحانات ومطاعم.
وقال المؤرخ عبد القادر بوراس لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) إن الإطار التاريخي لنزول القوات الأميركية بمدينة القنيطرة يتجلى في الحرب العالمية الثانية بين 1939 و1945، إذ منيت قوات التحالف بهزائم متتالية أمام ألمانيا النازية وقوات المحور، وتم احتلال فرنسا.
وأضاف بوراس أن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل اتفق مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على إنزال القوات البريطانية والأميركية في سواحل شمال أفريقيا من أجل محاصرة القوات الألمانية والإيطالية لاستعادة الأراضي التي احتلتها ألمانيا.
وقال المؤرخ إن الحرب العالمية الثانية كانت ويلا على المغاربة لأن الاستعمار الفرنسي كان يرسل كل المواد الغذائية إلى الجبهة في أوروبا، مما أدى إلى أزمة غذائية في المغرب.
وتابع بوراس قائلا إن الجنود الأميركيين جلبوا معهم بواخر محملة بأطنان من المواد الغذائية لتوزيعها على المغاربة "وكأن أميركا كانت منقدة للمغاربة من هذه المجاعة... فكان استقبال المغاربة للقوات الأميركية يصاحبه شيء من التفاؤل لأنهم حملوا معهم أسباب محاربة المجاعة".
رواج اقتصادي
كان المغني المغربي الحسين السلاوي، ابن مدينة سلا القريبة من القنيطرة، يزور المدينة باستمرار ويقيم بها عروضه الفنية، وشاهد تأثر المدينة بالوجود الأميركي، فقال في إحدى أغانيه "دخلت ميريكان والناس تقوات.. والنسا علينا جارو.. وتسمع أوكي كمان باي باي".
وقال بوراس إن الأغنية تعبر عن الرواج الاقتصادي إثر دخول المنتجات الأميركية، مضيفا "أميركا نشرت ما يسمى نمط العيش الأميركي عن طريق الاستهلاك، فكانت تأتي البواخر محملة بالملابس والخمور والسجائر والتجهيزات المنزلية، فأصبح حال التجار المغاربة ميسورا بفضل المعاملة التجارية مع الأميركيين".
كما زاد عدد متاجر بيع الخمور والنوادي الليلية في القنيطرة حيث كان الأميركيون والمغاربة يقضون عطلة نهاية الأسبوع، لتتحول القنيطرة إلى ما يشبه لاس فيغاس الأميركية.
واشتهرت في ذلك الوقت حانة كونتيننتال، أو حانة لولو على اسم ابن صاحبتها لولو غونزاليس، والتي تضم مجموعة من الصور القديمة، منها صور فوتوغرافية وأخرى مرسومة على جدرانها، تكاد تفقد ألوانها من شدة القدم. ومن بين هذه الصور، هناك صورة لبعض الجنود الأميركيين رسمت بعناية لكن أتلفتها عوامل الزمن.
واجهة حانة كونتيننتال، أو حانة لولو، التي بناها الأميركيون في مدينة القنيطرة المغربية
ومن بين الأماكن التي بناها الأميركيون في القنيطرة مطعم إلدورادو، الذي تحول هذه الأيام إلى حانة.
وذكر بوراس أنه على المستوى الاجتماعي اجتذبت القاعدة الأميركية في القنيطرة مئات العمال والحرفيين المغاربة، وكانت القنيطرة تأوي المئات من الطبقة العاملة المغربية الذين استفادوا من ارتفاع مستوى معيشتهم بسبب الأجرة المرتفعة.
شعبية كبيرة
القاعدة الأميركية كانت تقدم خدمات إلى المدينة وحتى إلى منطقة الغرب، ونجحت القوات الأميركية في إنقاذ الناس من الفيضانات التي عرفتها المدينة بصورة متكررة في الخمسينيات والستينيات، وأكسبت هذه المواقف الإنسانية الأميركيين شعبية كبيرة لدى سكان القنيطرة.
وقال سعيد البوزيدي، أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة بن طفيل في القنيطرة، لوكالة أنباء العالم العربي إن الولايات المتحدة اختارت هذه المدينة مركزا لنزول قواتها لأنها كانت الوحيدة التي تحتوي على ميناء نهري.
وأضاف البوزيدي أن أغلب القنيطريين الذين عايشوا تلك الفترة يثنون ويقدرون الحضور الأميركي في القاعدة الجوية بالمدينة.
وتابع "العديد من القنيطريين استفادوا من علاقاتهم بالأميركيين بالعلم والمعرفة ونمط الحياة، بل أكثر من ذلك هناك من كون أسرة من خلال ارتباطه بهؤلاء الأميركيين".
وفسر البوزيدي ذلك بقوله إن غالبية الجنود الأميركيين كانوا ينتمون لمناطق ريفية في الولايات المتحدة، وجاءوا من مقاطعات أميركية نائية، وبالتالي شبهوا القنيطرة بالمناطق التي ولدوا فيها.
ومضى قائلا "وجدوا في الساكنة المحلية بالقنيطرة ما يشبه كثيرا الحياة الأميركية، من حيث البحث عن الحرية وعدم الاهتمام بالسياسة، وهذا بالنسبة لهم كان مهما".
وقال إن القنيطريين كانوا يتعاملون مع الأميركيين أكثر من تعاملهم مع الفرنسيين "فكانت القاعدة الجوية الأميركية في أيام السبت تفتح أبواب محلاتها التجارية لإخراج كل ما كانت تحمله سفنها من أدوات ومعدات تأتي بها من آسيا وأوروبا وأميركا لتضعها رهن إشارة المغاربة الذين كانوا يقتنوها بثمن بخس ويعيدون بيعها".
وروى مصطفى كوارة، وهو أحد سكان القنيطرة الذين عايشوا الوجود الأميركي هناك، لوكالة أنباء العالم العربي أن الجنود الأميركيين كانوا يقيمون بجانبهم ويتعايشون معهم في المجتمع.
وقال كوارة البالغ من العمر 73 عاما "تعلمنا منهم احترام الجار واحترام الوقت، وتعلمنا منهم اللغة، وكانت معاملتهم أفضل من معاملة الفرنسيين، وكانوا متواضعين جدا ويحبون الخير".
وأضاف كوارة أنه يتذكر الأميركيين في القنيطرة وهو طفل، وبقيت في ذاكرته بعض المواقف واللحظات الإنسانية، مشيرا إلى أن المجتمع القنيطري استفاد في تلك الفترة اقتصاديا من وجود الأميركيين.
وطالب المغاربة بعد الاستقلال بجلاء القوات الأميركية، وهو ما تحقق بصورة نهائية في 1975 عندما خرج الأميركيون من القاعدة العسكرية الوحيدة المتبقية في القنيطرة.