فنان تشكيلي فلسطيني يتحدى الموت في غزة بسلسلة رسومات "أنا لا زلت حيا"
الفنان التشكيلي الفلسطيني ميسرة بارود يتكئ على صندوق مساعدات غذائية من الكرتون حوله إلى طاولة صغيرة ليمارس برنامجه اليومي في الرسم
  • دير البلح

  • الثلاثاء، ٣٠ يوليو ٢٠٢٤ في ٢:٢٦ م
    آخر تحديث : الثلاثاء، ٣٠ يوليو ٢٠٢٤ في ٢:٢٦ م

فنان تشكيلي فلسطيني يتحدى الموت في غزة بسلسلة رسومات "أنا لا زلت حيا"

(وكالة أنباء العالم العربي) - يتكئ الفنان التشكيلي الفلسطيني ميسرة بارود على صندوق مساعدات غذائية من الكرتون حوله إلى طاولة صغيرة ليرسم عليها ما يجول في مخيلته من أفكار ومعان ترتبط بالحرب التي يعيشها قطاع غزة، ويمارس برنامجه اليومي في الرسم الذي اعتاد عليه منذ ما يزيد على عقدين من الزمن رغم والقصف والتدمير اللذين يحيطان به من كل جانب.

يمسك الفنان قلمه لينفذ رسوماته على ورق أبيض ينقله معه وبقية أدواته البسيطة خلال نزوحه الذي تجاوز عشر مرات، وأكوام ركام المباني المدمرة أمام ناظريه.

وغير بعيد تتوغل آليات الجيش الإسرائيلي، بينما تعرض ذات المنزل الذي ينزح فيه في الطرف الجنوبي لمدينة دير البلح في وسط القطاع للقصف وتهدمت أجزاء منه.

لم يتردد بارود في استئناف رسوماته الإبداعية خلال الحرب رغم انقلاب حياته رأسا على عقب مع الأيام الأولى لاندلاعها، بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيلية مكتبه المكون من شقتين كان يشكل ملتقى فنيا وفكريا، ثم قصفت منزله في منطقة أخرى بمدينة غزة لتدمره ومعها مرسمه.

إحدى لوحات الفنان التشكيلي الفلسطيني ميسرة بارود الذي ما زال يمارس برنامجه اليومي في الرسم رغم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (30 يوليو تموز 2024)

إحدى لوحات الفنان التشكيلي الفلسطيني ميسرة بارود الذي ما زال يمارس برنامجه اليومي في الرسم

وقال بارود لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) "الرسم خلال الحرب الحالية بمذاق مختلف من حيث التحدي والإبداع، مساحة مرسمي قبل تدميره كانت مئة متر وفيه من الأدوات التي لا توجد بأي مكان آخر في غزة، وأرسم الآن بمساحة أربعة أمتار وبقلم رصاص فقط، لكن ذلك يعني لي أكثر بكثير من كل تلك الإمكانات السابقة".

وأضاف "القلم رفيقي ووسيلتي التي أنقل بها للعالم يوميات الحرب، وكنت أقضي ما بين سبع إلى عشر ساعات في الرسم، أما الآن فحسب ما تسمح به الظروف خلال الليل، لأن النهار مخصص لتوفير وتلبية احتياجات العائلة من الغذاء والماء والدواء وغيرها".

وتنوعت الخسائر التي لحقت بالفنان الفلسطيني جراء قصف منزله ومرسمه، من آلاف الرسومات التي احترقت إلى ثلاثة آلاف كتاب في جوانب فنية مختلفة كانت تخدم طلبة الجامعات، فضلا عن كافة الأدوات التي كان يستخدمها في مرسمه والتي حصل على أغلبها من خارج غزة.

يعتبر بارود أن خسارته الأكبر كانت في فقدانه الإحساس بالأمان بعد قصف منزله ومرسمه ومكتبه، وهي أماكن كانت تشكل بالنسبة له عالمه الخاص وتمنحه الإحساس بالسكينة والدفء والحياة.

يتخذ بارود، الأب لثلاثة، من "أنا لا زلت حيا" عنوانا لإنتاجه الفني خلال الحرب الذي ينشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن قدرة الفلسطينيين على هزيمة الموت بالحياة رغم أهوال الحرب من جهة، ومن أجل طمأنة أصدقائه داخل فلسطين وخارجها بأنه ما زال على قيد الحياة من جهة أخرى.

يعتمد بارود، المحاضر في كلية الفنون بجامعة الأقصى في غزة، الأسلوب شبه التجريدي للفن التشكيلي باستخدام خطوط حادة، كما يبرز خطوطا مستقيمة في رسوماته، سواء كانت مائلة أو عمودية أو أفقية أو منكسرة، باعتبار أن الخطوط المنحنية بها نوع من "الليونة والحنان المنافية لقسوة الواقع".

ويظهر التشظي في لوحات بارود مع بعض الرموز التي لها علاقة بالمرحلة الحالية، مثل السهم الذي يسير في كافة الاتجاهات صعودا ونزولا تعبيرا عن فقدان بوصلة الحياة والمتاهة التي يعيشها النازحون في غزة وهم يتحركون في طرق لا يعرفون نهايتها مع نزوحهم المستمر من مكان إلى آخر بحثا عن النجاة.

وإذا كانت الأدوات والتقنيات المستخدمة قبل الحرب تمنح بارود قدرة على إظهار التباين والتدرج من الأبيض إلى الأسود، فإن الأدوات ومتطلبات واقع الحرب الآن تحصر رسوماته في اللون الأسود على السطح الأبيض للتعبير عن ضيق الخيارات.

وقال الفنان الفلسطيني "لست قادرا على إظهار تباينات أخرى سوى التباين بين الأبيض والأسود، ودلالته الفنية غياب الخيارات وانحسارها بين الأبيض والأسود، ولا توجد منطقة رمادية وتدرجات للحياة كما كانت قبل الحرب، الآن لا توجد منطقة وسط إما الموت أو الحياة".

fbcf1356-48d3-4354-8427-ff4d1672dcfc.jpg

الفنان التشكيلي الفلسطيني ميسرة بارود يمارس برنامجه اليومي في الرسم رغم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة

وبينما كان مضمون لوحات بارود قبل الحرب يعالج قضايا إنسانية في فلسطين والمنطقة العربية والعالم وتم عرضها في معارض محلية وخارجية في دول عربية وأجنبية، فإن تركيزه الآن ينصب على تداعيات ما أسماها "الإبادة الجماعية" بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، لإبراز جوانب متعددة تعبر عن التدمير والنزوح والموت والحياة وغيرها.

ولا يستخدم الفنان الفلسطيني سوى أقلام من الحبر وورق الكانسون المخصص للرسم في لوحاته، التي تمثل بحد ذاتها حكاية منفصلة عن غيرها لكنها ترتبط في سياقها العام بالعنوان الرئيسي المعتمد خلال الحرب.

وتعبر الرسومات بأسلوب مميز عن جوانب حياتية عديدة من لحظات النزوح العصيبة، وأشلاء الضحايا، وبحث الأمهات عن الأبناء القتلى، إلى رتق الأحذية وطوابير الحصول على الطعام والماء، وإسقاط المساعدات من الطائرات، فضلا عن أوضاع الجرحى بالمستشفيات، وتدمير المباني والطرقات، والحنين إلى المناطق التي جرى إخلاؤها، إضافة إلى مظاهرات طلبة الجامعات في الولايات المتحدة وغيرها.

وبموازاة أعداد لوحات الفنان بارود التي تزيد بقليل على عدد أيام الحرب التي اقتربت من 300 يوم، فإن كل لوحة منها تعبر عن جانب من جوانبها التي تفيض بالوجع والألم، من دون أن يختفي منها بصيص الأمل.

ويكدس بارود اللوحات الجاهزة أو تلك التي يستكمل بعض رتوشها النهائية بجانبه ليبدو محتضنا إياها.

ولحرصه على عدم تكرار ضياع آلاف اللوحات في القصف كما حدث في منزله ومرسمه، عمد بارود إلى إرسال نحو 120 لوحة من الحجم الكبير إلى صديقين في القاهرة عبر بعض الأقارب الذين سافروا من القطاع قبل اجتياح الجيش الإسرائيلي لرفح وإغلاق المعبر الحدودي الذي يمثل المنفذ الوحيد لأهالي قطاع غزة إلى العالم الخارجي.

يأمل بارود في نهاية قريبة للحرب حتى يستطيع الفلسطينيون لملمة شتاتهم وإثبات قدرتهم على الحياة من جديد، على الرغم من أن الحال يختلف هذه المرة ويتجاوز حدود الكارثة والنكبة، على حد قوله.