عصر الأفنديّة.. كتاب لمؤرخّة إنجليزية يكشف سر "تُراب الميري" في تاريخ مصر
(وكالة أنباء العالم العربي) - على الرغم من شيوع كلمة الأفندي في الدراما المصرية طوال سنوات، فإن القليل من الناس يعرفون الدور الذي لعبه الأفندية في تأسيس الحداثة المصرية والنهوض بالدور الأكبر في تاريخ مصر المعاصر.
ويكشف كتاب (عصر الأفندية) للباحثة الإنجليزية لوسي ريزوفا، الأستاذة في جامعة برمنجهام، العلاقة الجدلية التي يجسدها الأفندية بين الثقافة التقليدية الموروثة من العصور الوسطى، وبين حداثة وافدة تفرضها دولة محمد علي باشا من أعلى عندما أوجدت "تراب الميري" ثم عزز وجوده حضور "الخواجة" المستعمر وأعوانه في البلاد.
يبحث الكتاب في دور الأفندية كممرات للحداثة خلال الفترة الاستعمارية (1882-1952)؛ وينظر إلى الأفندي على أنه مواطن يعتبر نفسه بالنشاط الذي يؤديه مواطنا حديثا، بغض النظر عن درجة التعليم التي حصّلها أو نوعه.
صدرت ترجمة الكتاب في الآونة الأخيرة في 416 صفحة عن دار كتب خان في القاهرة، وهي من ترجمة محمد الدخاخني.
* مدخل مبتكر
تبدأ المؤلفة كتابها الشائق بتناول النموذج الذي يمثّله إسماعيل بطل رواية (قنديل أم هاشم) للكاتب يحيى حقّي، موضّحة أن هذه الرواية التي صدرت عام 1944 تعكس ميلاد الذات المصرية الساعية للدخول نحو عالم جديد يعكس ما تسميه "الثقافة الأفندية".
ويلخص هذا المفهوم مجموعة من المواقف الاجتماعية والثقافية التي تمحورت حول شخصية الأفندي، التي تبدو حاسمة في فهم التغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي جرت في مصر خلال وقوعها تحت الاستعمار المباشر.
تعتمد مقاربات لوسي ريزوفا على مقاربات نظريّات ما بعد الاستعمار؛ وتلجأ لأرشيف غير تقليدي تكافح به الرؤى النظريّة الموروثة من المدارس التقليديّة لكتابة التاريخ، والتي تقوم على الأرشيفات الرسميّة وتستعمل في عملها ما تسمّيه "التاريخ من الوسط".
كما تقاوم استعمال ما يسمى "التاريخ من أسفل"، الذي يُقاوِم الروايات الرسمية؛ وتلجأ لما تسمّيه "أرشيف سور الأزبكية"، في إشارة إلى سوق الوراقين الشهير في القاهرة.
ووفقا لكلمة الناشر، فقد اعتادت الباحثة جمع واستعمال المطبوعات كافة التي وجَدت أنها تخدِم موضوعها من كتب ودوريّات وصور فوتوغرافية ومراسلات ومكتبات منزلية خاصة، لكنها لا تنفي في المقابل الطابع الانتقائي لهذه الأرشيفات وتراهن على تناولها الشائق لموضوع الكتاب.
ولوسي ريزوفا هي مؤرخة اجتماعية وثقافيّة وأستاذة في جامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة تتحدث العربية بطلاقة وتعمل في الوقت الحالي على التاريخ الاجتماعي للفوتوغرافيا في مصر؛ ويعدّ هذا الكتاب أول مؤلفاتها، وقد صدر بالإنجليزية عام 2014.
* محاولة توفيقيّة
يوضّح الكتاب أن "الأفندي" ظهر كمحاولة توفيق بين ما تمثّله الأصالة والحداثة لصياغة نمط وطني يمثّل الفرد الحديث الذي يضطلع بمسؤوليات وطنية أو مهمة رسولية تبشيرية هي تنوير الشعب الراسخ في ثلاثية الفقر والجهل والمرض وبالتالي محاولة ترقيته اجتماعيا.
وترى المؤلفة أن جيل الأفندية هو أول جيل حديث واعٍ بذاته في التاريخ المصري، كما أنه جيل الفاعلين الرئيسين في بناء الوطنية المصرية على اختلاف أنواعها وصنّاع السياسة وبناة المؤسسات الاجتماعية والثقافية، وهم المستهلكون الأساسيون لكل ذلك، كما أنهم جيل البيروقراطية الذي تولّى إدارة تلك المؤسسات وكذلك كان هؤلاء هم صنّاع السياسات العامة.
تتعامل لوسي ريزوفا مع البعثات العلمية التي قام بها بعض أفراد هذا الجيل إلى أوروبا بوصفها "حجّا استعماريا" إلى الغرب، وتُسلّط الضوء على الخيارات التعليمية التي كانت متاحة أمام أبناء الطبقة الوسطى المصرية وأخرجت مَن تسمّيهم "الرجال الجدد" في مصر.
ومن المفارقات التي يكشفها الكتاب أن الخديوي إسماعيل هو تجسيد للحداثة الغربيّة والمصالح الاستعماريّة، بفضل طموحه في جعل مصر قطعة من أوروبا، وهو ذاته الذي سيمثّل في النهاية العدو الأكبر لها.
يتطرق الكتاب كذلك إلى الكيفيّة التي تشكّلت عبرها الذات الوطنية المصرية من خلال مؤسسات التعليم الحديثة، وكيف تم وضع أفراد جيل الأفندية داخل مراكز مفصليّة عكست تأثيرهم الواسع داخل الممارسة اليومية؛ كما يدرس الكتاب الآثار المترتبة على وجودهم الاجتماعي وخلق الحداثة التي توصف بأنها "قطيعة" مع الثقافة التقليدية التي كانت قائمة.
تعود لوسي ريزوفا لتأمّل صراع إسماعيل بطل رواية (قنديل أم هاشم) مع عائلته، وتقول إنها مواجهة بين الذات الحديثة التي أنتجها العالم الاجتماعي الجديد ورؤية والده التي كانت ما قبل حديثة.
* مواجهة جديدة
ووفقا للمؤلفة، فإن هذه المواجهة كانت شاهدة على ميلاد مفاهيم جديدة أوجدها مستقبل كان ينتج أشكالا حديثة من السلطة الاجتماعية يمثّلها هؤلاء الفاعلون الجدد، على الرغم من استمرار سلطة الآباء التي تشير إلى الأصالة، والتي كان من الصعب أيضا التخلّص منها تماما.
وتشير المؤلّفة إلى أن الفاعلين الجدد سعوا في كثير من الأحيان إلى التعليم الحديث الذي كان تمرينا في التغلب على الحواجز الاجتماعية والمادية، وتم استعماله دائما مدخلا للترقّي الطبقي، كما تم تغليف أهدافه بأطر أيديولوجيا ربطت بين المعرفة بالنضال الوطني وتم تصوير التعليم باعتباره مهمة موجّهة نحو المجتمع.
كما نظر الأفندية دائما إلى أنفسهم على أنهم حاملو مشروع التحديث والإصلاح والاستقلال، ومثّلت الحداثة شيئا حصلوا عليه من خلال جهودهم الخاصة وبالتالي اعتبروا أنفسهم أصحابها الشرعيين والأوصياء عليها كذلك.
يشير الكتاب إلى الأفندية بوصفهم فئة اجتماعية تتميز بعدد من العلامات المعترف بها اجتماعيا، ومنها تلقّي التعليم على النمط الغربي وبطريقة تُشير إلى امتلاك الأفندي للحداثة وتوظيفه مهنيّا أو عاملا من ذوي الياقات البيضاء الذين يمارسون عملا بيروقراطيا أو إبداعيا يُترجم إلى رأس مال اجتماعي ظاهر.
وعلى الرغم من أن معظم الكتابات التاريخية تنظر لما حدث في مصر خلال ثورة 23 يوليو 1952 على أنه نهاية للعصر الليبرالي الذي لعب فيه الأفندية الدور الأهم، فإن المؤلفة تؤكّد أن الناصرية تمثل تتويجا وإكمالا للثقافة الأفندية، وتقول "لم يكن هناك مشروع ليبرالي بل كان هناك مشروع الأفندي".